الشبه التي يضل بها بعض الناس

مجموع فتاوى ابن تيمية ، الجزء : 3 ، الصفحة : 54 عدد الزيارات: 22350 طباعة المقال أرسل لصديق

القاعدة الخامسة أنا نعلم لما أخبرنا به من وجه دون وجه .
فإن الله قال : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقال : { أفلم يدبروا القول } وقال : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } وقال : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } .
فأمر بتدبر الكتاب كله وقد قال تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب } وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف على قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وروي عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب وقد روي عن مجاهد وطائفة : أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله وقد قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها ولا منافاة بين القولين عند التحقيق فإن لفظ ( التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملا في ثلاثة معان : - ( أحدها - وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله - أن ( التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ; لدليل يقترن به وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها ; وهل ذلك محمود أو مذموم أو حق أو باطل ؟
( الثاني : أن التأويل بمعنى التفسير وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله - من المصنفين في التفسير - واختلف علماء التأويل ومجاهد إمام المفسرين ; قال الثوري : " إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به " وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهما فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره ( الثالث من معاني التأويل : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال الله تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } .
فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون : من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك كما قال الله تعالى في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته قال : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا الثاني : هو تفسير الكلام وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه أو تعرف علته أو دليله وهذا ( التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج ومنه قول عائشة .
{ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي } يتأول القرآن يعني قوله : { فسبح بحمد ربك واستغفره } وقول سفيان بن عيينة : السنة هي تأويل الأمر والنهي فإن نفس الفعل المأمور به : هو تأويل الأمر به ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر والكلام خبر وأمر ولهذا يقول أبو عبيد وغيره : الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء ; لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه ; لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعلم أتباع بقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهما ما لا يعلم بمجرد اللغة ; ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر .
إذا عرف ذلك : فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة لنفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات وتأويل ما أخبر الله به تعالى من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة يشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا كما أخبر أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وخمرا ونحو ذلك وهذا يشبه ما في الدنيا لفظا ومعنى ; ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته فأسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ، ولا حقيقته كحقيقته والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد ; مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به : من الجنة والنار علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك وأما نفس الحقيقة المخبر عنها مثل التي لم تكن بعد ; وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } قالوا : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله : الاستواء معلوم والكيف مجهول ومن الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا الإيمان فبين أن الاستواء معلوم وأن كيفية ذلك مجهول ، ومثل هذا يوجد كثيرا في كلام السلف ، والأئمة ينفون علم العباد بكيفية صفات الله وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله فلا يعلم ما هو إلا هو ، وقد قال النبي : { لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } وهذا في صحيح مسلم وغيره وقال في الحديث الآخر : { اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك } وهذا الحديث في المسند ، وصحيح أبي حاتم وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره .
والله سبحانه أخبرنا أنه عليم قدير سميع بصير غفور رحيم ; إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته .
فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم والقدرة وبين الرحمة والسمع والبصر ، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها فهي متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب .
وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء وغير ذلك ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها هل هي من قبيل المترادفة - لاتحاد الذات - أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات ؟ كما إذا قيل : السيف والصارم والمهند وقصد بالصارم معنى الصرم وفي المهند النسبة إلى الهند ; والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه ; والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه قال الله تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } فأخبر أنه أحكم آياته كلها ، وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } فأخبر أنه كله متشابه والحكم هو الفصل بين الشيئين فالحاكم يفصل بين الخصمين ، والحكم فصل بين المتشابهات علما وعملا إذا ميز بين الحق والباطل والصدق والكذب والنافع والضار وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار فيقال : حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام وإحكام الشيء إتقانه فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره وتمييز الرشد من الغي في أوامره ، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان فقد سماه الله حكيما بقوله : { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } فالحكيم بمعنى الحاكم ; كما جعله يقص بقوله : { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } وجعله مفتيا في قوله : { قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } أي ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن وجعله هاديا ومبشرا في قوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وهو الاختلاف المذكور في قوله : { إنكم لفي قول مختلف } { يؤفك عنه من أفك } .
فالتشابه هنا : هو تماثل الكلام وتناسبه : بحيث يصدق بعضه بعضا ; فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر ; بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته ; وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته إذا لم يكن هناك نسخ وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك بل يخبر بثبوته أو بثبوت ملزوماته وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته بل ينفيه أو ينفي لوازمه بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضا فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر فالأقوال المختلفة هنا : هي المتضادة .
والمتشابهة : هي المتوافقة وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضا ويعضد بعضها بعضا ويناسب بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ويقتضي بعضها بعضا : كان الكلام متشابها ; بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضا فهذا التشابه العام : لا ينافي الإحكام العام بل هو مصدق له فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا بخلاف الإحكام الخاص ; فإنه ضد التشابه الخاص والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس إنه هو أو هو مثله وليس كذلك والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبها عليه ومنهم من يهتدي إلى ذلك ; فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله فعلم العلماء أنه ليس مثله وإن كان مشبها له من بعض الوجوه ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل حتى تشتبه على بعض الناس ; ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه فمن عرف الفصل بين الشيئين : اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد ; وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه والقياس الفاسد لا ينضبط كما قال الإمام أحمد : أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ; فالتأويل : في الأدلة السمعية ، والقياس : في الأدلة العقلية وهو كما قال والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة ، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات حتى آل الأمر إلى من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء وأن يكون إياه أو متحدا به ; أو حالا فيه من الخالق مع المخلوق فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها حتى ظنوا وجودها وجوده ; فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه .
وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحدا ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع وآخرون توهموا أنه إذا قيل : الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم التشبيه والتركيب فقالوا : لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة مثل وجود مطلق وحيوان مطلق وجسم مطلق ونحو ذلك فخالفوا الحس والعقل والشرع وجعلوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان وهذا كله من نوع الاشتباه ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والاختلاف ; وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق وهذا كما أن لفظ ( إنا ) و ( نحن ) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء في الفعل ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون له ; لا شركاء له فإذا تمسك النصراني بقوله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر } ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله تعالى : { وإلهكم إله واحد } ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدا يزيل ما هناك من الاشتباه ; وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله فلا يعلمهم إلا هو { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله بخلاف الملك من البشر إذا قال : قد أمرنا لك بعطاء فقد علم أنه هو وأعوانه مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك والله - سبحانه وتعالى - لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة وإن زال الاشتباه بما يميز أحد النوعين : من إضافة أو تعريف كما إذا قيل : فيها أنهار من ماء فهناك قد خص هذا الماء بالجنة فظهر الفرق بينه ، وبين ماء الدنيا لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين - مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذي يختص بها التي هي حقيقة لا يعلمها إلا هو ; ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم - من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه - تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله كما قال أحمد : في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه وإن كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله ولم ينف مطلق لفظ التأويل كما تقدم : من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به فذلك لا يعاب بل يحمد ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها فذاك لا يعلمه إلا هو وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ومن لم يعرف هذا : اضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره ويحتجون بقوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل وهذا تناقض منهم ; لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون التأويل مطلقا وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو .